كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الطبري: وروي عن ابن عباس أنه كان يتأول في هذا الاستثناء أن الله جعل أمر هؤلاء في مبلغ عذابه إياهم إلى مشيئته. وهذا التفسير من ابن عباس يبطل قول من تأول الآية على أن معناها سوى ما شاء الله من أنواع العذاب أو قال المعنى إلا مدة مقامهم قبل الدخول من حين بعثوا إلى أن دخلوا أو أنها في أهل القبلة وما يعني من أو أنها يعني الواو.
أي وما شاء الله وهذه كلها تأويلات باردة ركيكة لا تليق بالآية ومن تأملها جزم ببطلانها وقال السدي في قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} قال سبعمائة حقب كل حقب سبعون سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوما كل يوم كألف سنة مما تعدون وتقييد لبثهم فيها بالأحقاب يدل على مدة مقدرة يحصرها العدد هذا قول الأكثرين ولهذا تأول الزجاج الآية على أن الأحقاب تقييد لقوله لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا وأما مدة مكثهم فيها فلا يتقدر بالأحقاب وهذا تأويل فاسد فإنه يقتضي أن يكونوا بعد الأحقاب ذائقين للبرد والشراب وقالت طائفة أخرى الآية منسوخة بقوله: {مَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} وقوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وهذا فاسد أيضا إن أرادوا بالنسخ الرفع فإنه لا يدخل في الخبر إلا إذا كان بمعنى الطلب وإن أرادوا بالنسخ البيان فهو صحيح وهو إنما يدل على أن عذابهم دائم مستمر ما دامت باقية فهم فيها خالدون وما هم بمخرجين وهذا حق معلوم دلالة القرآن والسنة عليه لكن الشأن في أمر آخر وهو أن النار أبدية دائمة بدوام الرب فأين الدليل على هذا من القرآن أو السنة بوجه من الوجوه وقالت طائفة هي في أهل التوحيد وهذا أقبح مما قبله وسياق الآيات يرده ردا صريحا ولما رأى غيرهم بطلان هذه التأويلات قال لا يدل ذكر الأحقاب على النهاية فإنها غير مقدرة بالعدد فإنه لم يقل عشرة ولا مائة ولو قدرت بالعدد لم يدل على النهاية إلا بالمفهوم فكيف إذا لم يقدر قالوا ومعنى الآية أنه كلما مضى حقب تبعه حقب لا إلى نهاية وهذا الذي قالوه لا تدل الآية عليه بوجه وقولهم أن الأحقاب فيها غير مقدرة فيقال لو أريد بالآية بيان عدم انتهاء مدة العذاب لم يقيد بالأحقاب فإن ما لا نهاية له لا يقال هو باق أحقابا ودهورا وأعصارا أو نحو ذلك ولهذا لا يقال ذلك في نعيم أهل الجنة ولا يقال للأبدي الذي لا يزول هو باق أحقابا أو آلافا من السنين فالصحابة أفهم الآية لمعاني القرآن.
وقد فهم منها عمر بن الخطاب خلاف فهم هؤلاء كما فهم ابن عباس من آية الاستثناء خلاف فهم أولئك وفهم الصحابة في القرآن هو الغاية التي عليها المعول وقد قال ابن مسعود: ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا.
وقال ابن جرير حديث عن المسيب عمن ذكره عن ابن عباس {خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك} قال: أمر الله النار أن تأكلهم قال وقال ابن مسعود فذكره وقال حدثنا محمد بن حميد ثنا جرير عن بيان عن الشعبي قال: جهنم أسرع الدارين عمرانا وأسرعهما خرابا قلت لا يدل قوله أسرعهما خرابا على خراب الدار الأخرى كما في قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} وقوله: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} وقوله في الحديث: الله أعلا وأجل وقوله: أسرعهما عمرانا يحتمل معنيين أحدهما مسارعة الناس إلى الأعمال التي يدخلون بها جهنم وإبطاؤهم عن أعمال الدار الأخرى والثاني أن أهلها يدخلونها قبل دخول أهل الجنة إليها فإن أهل الجنة إنما يدخلونها بعد عبورهم على الصراط وبعد حبسهم على القنطرة التي وراءه وأهل النار قد تبوءوا منازلهم منها فإنهم لا يجوزون على الصراط ولا يحبسون على تلك القنطرة وأيضا ففي الحديث الصحيح: أنه لما ينادي المنادى لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فتتبع المشركون أوثانهم وآلهتهم فتتساقط بهم في النار وتبقى هذه الأمة في الموقف حتى يأتيها ربها عز وجل ويقول ألا تنطلقون حيت انطلق الناس.
وقد ذكر الخطيب في تاريخه في ترجمة سهل بن عبيد الله بن داود ابن سليمان أبو نصر البخاري حدثنا محمد بن نوح الجند سابوري حدثنا جعفر بن محمد بن عيسى الناقد حدثنا سهل بن عثمان ثنا عبد الله بن مسعر بن كدام عن جعفر بن الزبير عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على جهنم يوما ما فيها من بني آدم أحد تخفق أبوابها كأنها أبواب الموحدين» وليس العمدة على هذا وحده فإن إسناده ضعيف وقد روي من وجه آخر عن ابن مسعود وقد تقدم.
فصل: والذين قطعوا بأبدية النار وأنها لا تفنى لهم طرق، أحدها الآيات والأحاديث الدالة على خلودهم فيها وأنهم لا يموتون وما هم منها بمخرجين وأن الموت يذبح بين الجنة والنار وأن الكفار لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وأمثال هذه النصوص وهذه الطريق لا تدل على ما ذكروه وإنما يدل على أنها ما دامت باقية فهم فيها فأين فيها ما يدل على عدم فنائها، الطريق الثاني دعوى الإجماع على ذلك وقد ذكرنا من أقوال الصحابة والتابعين ما يدل على أن الأمر بخلاف ما قالوا حتى لقد ادعى إجماع الصحابة من هذا الجانب استنادا إلى تلك النقول التي لا يعلم عنهم خلافها، الطريق الثالث أنه كالمعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن الجنة والنار لا تفنيان بل هما باقيتان ولهذا أنكر أهل السنة كلهم على أبي الهذيل وجهم وبشيعتهما ممن قال بفنائها وعدوا أقوالهم من أقوال أهل البدع المخالفة لما جاء به الرسول ولا ريب أن هذا من أقوال أهل البدع التي خرجوا بها عن السنة ولكن من أين تصح دعوى العلم النظري أن النار باقية ببقاء الله دائمة بدوامه فضلا عن العلم الضروري فأين في الأدلة الشرعية أو العقلية دليل واحد يقتضي ذلك، الطريق الرابع أن السنة المستفيضة أو المتواترة أخبرت بخروج أهل التوحيد من النار دون الكفار وهذا معلوم من السنة قطعا وهذا الذي قالوه حق لا ريب فيه ولكن أهل التوحيد خرجوا منها وهي باقية لم تفن ولم تعدم والكفار لا يحصل لهم ذلك بل هم باقون فيها ما بقيت، الطريق الخامس أن العقل يدل على خلود الكفار فيها وعدم خروجهم منها فإن نفوسهم غير قابلة للخير فإنهم لو خرجوا منها لعادوا كفارا كما كانوا وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} وهذا يدل على غاية عتوهم وإصرارهم وعدم قبول الخير فيهم بوجه من الوجوه فلا تصلح نفوسهم الشريرة الخبيثة إلا للعذاب ولو صلحت لصلحت على طول العذاب فحيث لم يؤثر عذابهم تلك الأحقاب الطويلة في نفوسهم ولم يطيبها علم أنه لا قابلية فيهم للخير أصلا وأن أسباب العذاب لم يطف من نفوسهم فلا يطفى العذاب المترتب عليها وهذه الطريق وإن أنكرت ببادئ الرأي فهي طريق قوية وهي ترجع إلى طريق الحكمة وأن الحكمة التي اقتضت دخولهم هي التي اقتضت خلودهم ولكن هذه الطريق محرم سلوكها على نفاة الحكمة وعلى مثبتيها من المعتزلة والقدرية أما النفاة فظاهر وأما المثبتة فالحكمة عندهم أن عذابهم لمصلحتهم وهذا إنما يصح إذا كان لهم حالتان حالة يعذبون فيها لأجل مصلحتهم وحالة يزول عنهم العذاب لتحصل لهم تلك المصلحة وإلا فكيف تكون مصلحتهم في عذاب لا انقطاع له أبدا وأما من يثبت حكمة راجعة إلى الرب تعالى فيمكنهم سلوك هذه الطريق لكن يقال الحكمة لا تقتضي دوام عذابهم بدوام بقائه سبحانه وهو لم يخبر أنه خلقهم لذلك وإنما يعذبون لغاية محمودة إذا حصلت حصل المقصود من عذابهم وهو سبحانه لا يعذب خلقه سدى وهو قادر على أن ينشئهم بعد العذاب الطويل نشأة أخرى مجردة عن تلك الشرور والخبائث التي كانت في نفوسهم وقد أزالها طول العذاب فإنهم خلقوا قابلين للخير على الفطرة وهذا القبول لازم لخلقتهم وبه أقروا بصانعهم وفاطرهم وإنما طرأ عليه ما أبطل مقتضاه فإذا زال ذلك الطارئ بالعذاب الطويل بقي أصل القبول بلا معارض وأما قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْه} فهذا قبل مثابرتهم للعذاب قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فتلك الخبائث والشرور قائمة بنفوسهم لم تزلها النار فلو ردوا لعادوا لقيام المقتضى للعود ولكن أين أخبر سبحانه أنه لو ردهم بعد العذاب الطويل السرمدي لعادوا لما نهوا عنه وسر المسألة أن الفطرة الأصلية لابد أن تعمل عملها كما عمل الطارئ عليها عمله وهذه الفطرة عامة لجميع بني آدم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة» وفي لفظ «على هذه الملة» وفي صحيح مسلم من حديث عياض بن حماد المجاشعي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه: «قال إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وأنهم أتتهم الشياطين فاحتالتهم عن دينهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا» فأخبر أن الأصل فيهم الحنيفية وأنهم خلقوا عليها وأن صدها عارض فيهم باقتطاع الشياطين لهم عنها فمن الممتنع أن يعمل أثر اقتطاع الشياطين ولا يعمل أثر خلق الرحمن جل جلاله عمله والكل خلقه سبحانه فلا خالق سواه ولكن ذاك خلق يحبه ويرضاه ويضاف أثره إليه وهذا خلق يبغضه ويسخطه ولا يضاف أثره إليه فإن الشر ليس إليه والخير كله في يديه فإن قيل فقد قال سبحانه: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ} وهذا يقتضي أنه لا قابلية فيهم ولا خير عندهم البتة ولو كان عندهم لخرجوا به من النار مع الموحدين فإنه سبحانه يخرج من النار من في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من خير فعلم أن هؤلاء ليس معهم هذا القدر اليسير من الخير قيل الخير في هذا الحديث هو الإيمان بالله ورسله كما في اللفظ الآخر أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان وهو تصديق رسله والانقياد لهم بالقلب والجوارح وأما الخير في الآية فالمراد به القبول والزكاة ومعرفة قدر النعمة وشكر المنعم عليها فلو علم الله سبحانه ذلك فيهم لأسمعهم إسماعا ينتفعون به فإنهم قد سمعوا سماعا تقوم به عليهم الحجة فتلك القابلية ذهب أثرها وتعطلت بالكفر والجحود وعادت كالشيء المعدوم الذي لا ينتفع به وإنما ظهر أثرها في قيام الحجة عليهم ولم يظهر أثرها في انتفاعهم بما عملوه وتيقنوه فإن قيل فالغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا وقال نوح عن قومه ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي مرفوعا: «إن بني آدم خلقوا على طبقات شتى فمنهم من يولد مؤمنا ويحيي مؤمنا ويموت مؤمنا ومنهم من يولد كافرا ويحي كافرا ويموت كافرا». الحديث قيل هذا لا يناقض كونه مولودا على الفطرة فإنه طبع وولد مقدرا كفره إذا عقل وإلا ففي حال ولادته لا يعرف كفرا ولا إيمانا فهي حال مقدرة لا مقارنة للعامل فهو مولود على الفطرة ومولود كافرا باعتبارين صحيحين ثابتين له هذا بالقبول وإيثار الإسلام لو خلى وهذا بالفعل والإرادة إذا عقل فإذا جمعت بين الفطرة السابقة والرحمة السابقة العالية والحكمة البالغة والغنى التام وقرنت بين فطرته ورحمته وحكمته وغناه تبين لك الأمر، الطريق السادس قياس دار العدل على دار الفضل وأن هذه كما أنها أبدية فالأخرى كذلك لأن هذه توجب عدله وعدله ورحمته من لوازم ذاته وهذه الطريق غير نافذة فإن العدل حقه سبحانه لا يجب عليه أن يستوفيه ولا يلحقه بتركه نقص ولا ذم بوجه من الوجوه والفضل وعده الذي وعد به عباده وأحقه على نفسه والفرق بين الدارين من وجوه عديدة شرعا وعقلا، أحدها أن الله سبحانه أخبر بأن نعيم الجنة ماله من نفاد وأن عطاء أهلها غير مجذوذ وأنه غير ممنون ولم يجيء ذلك في عذاب أهل النار، الثاني أنه أخبر بما يدل على انتهاء عذاب أهل النار في عدة آيات كما تقدم ولم يخبر بما يدل على انتهاء نعيم أهل الجنة ولهذا احتاج القائلون بالتأبيد الذي لا انقطاع له إلى تأويل تلك الآيات ولم يجئ في نعيم أهل الجنة ما يحتاجونه إلى تخصيصه بالتأويل، الثالث أن الأحاديث التي جاءت في انتهاء عذاب النار لم يجيء شيء منها في انتهاء نعيم الجنة، الرابع أن الصحابة والتابعين إنما ذكروا انقطاع العذاب ولم يذكر أحد منهم انقطاع النعيم، الخامس أنه قد ثبت أن الله سبحانه يدخل الجنة بلا عمل أصلا بخلاف النار، السادس أنه سبحانه ينشئ في الجنة خلقا ينعمهم فيها ولا ينشئ في النار خلقا يعذبهم بها، السابع أن الجنة من مقتضى رحمته والنار من مقتضى غضبه وأن الذين يدخلون النار أضعاف أضعاف الذين يدخلون الجنة فلو دام عذاب هؤلاء كدوام نعيم هؤلاء لغلب غضبه رحمته فكان الغضب هو الغالب السابق وهذا ممتنع، الثامن أن الجنة دار فضله والنار دار عدله وفضله يغلب عدله، التاسع أن النار دار استيفاء حقه الذي له والجنة دار وفاء حقه الذي أحقه هو على نفسه وهو سبحانه يترك حقه ولا يترك الحق الذي أحقه على نفسه، العاشر أن الجنة هي الغاية التي خلقوا لها في الآخرة وأعمالها هي الغاية التي خلقوا لها في الدنيا بخلاف النار فإنه سبحانه لم يخلق خلقه للكفر به والإشراك وإنما خلقهم لعبادته وليرحمهم، الحادي عشر أن النعيم من موجب أسمائه وصفاته والعذاب إنما هو من أفعاله قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} وقال: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وما كان من مقتضى أسمائه وصفاته فإنه يدوم بدوامه فإن قيل فإن العذاب صادر عن عزته وحكمته وعدله وهذه أسماء حسنى وصفات كمال فيدوم ما صدر عنها بدوامها قيل لعمر الله أن العذاب صدر عن عزة وحكمة وعدل وانتهاؤه عند حصول المقصود منه يصدر عن عزة وحكمة وعدل فلم يخرج العذاب ولا انقطاعه عن عزته وحكمته وعدله ولكن عند انتهائه يكون عزة مقرونة برحمة وحكمة مقرونة بجود وإحسان وعفو وصفح فالعزة والحكمة لم يزالا ولم ينقص بل صدر جميع ما خلقه ويخلقه وأمر به ويأمر به عن عزته وحكمته، الثاني عشر أن العذاب مقصود لغيره لا لنفسه وأما الرحمة والإحسان والنعيم فمقصود لنفسه فالإحسان والنعيم غاية والعذاب والألم وسيلة فكيف يقاس أحدهما بالآخر، الثالث عشر أنه سبحانه أخبر أن رحمته وسعت كل شيء وأن رحمته سبقت غضبه وأنه كتب على نفسه الرحمة فلابد أن تسع رحمته هؤلاء المعذبين فلو بقوا في العذاب لا إلى غاية لم تسعهم رحمته وهذا ظاهر جدا فإن قيل فقد قال سبحانه عقيبها: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} إلى آخر الآية يخرج غيرهم منها لخروجهم من الوصف الذي يستحق به قيل الرحمة المكتوبة لهؤلاء هي غير الرحمة الواسعة لجميع الخلق بل هي رحمة خاصة خصهم بها دون غيرهم وكتبها لهم دون من سواهم وهم أهل الفلاح الذين لا يعذبون بل هم أهل الرحمة والفوز والنعيم وذكر الخاص بعد العام استطرادا وهو كثير في القرآن بل قد يستطرد من الخاص إلى العام كقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} فهذا استطراد من ذكر الأبوين إلى ذكر الذرية ومن استطراد قوله: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} فالتي جعلت رجوما ليست هي التي زينت بها السماء ولكن استطرد من ذكر النوع إلى نوع آخر وأعاد ضمير الثاني على الأول لدخولهما تحت جنس واحد فهكذا قوله: {رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} فالمكتوب للذين يتقون نوع خاص من الرحمة الواسعة والمقصود أن الرحمة لابد أن تسع أهل النار ولابد أن تنتهي حيث ينتهي العلم كما قالت الملائكة ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما، الرابع عشر أنه قد صح عنه صلى الله عليه وسلم حديث الشفاعة: «قول أولي العزم إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله». وهذا صريح في أن ذلك الغضب العظيم لا يدوم ومعلوم أن أهل النار إنما دخلوها بذلك الغضب فلو دام ذلك الغضب لدام عذابهم إذ هو موجب ذلك الغضب فإذا رضي الرب تبارك وتعالى وزال ذلك الغضب زال موجبه وهذا كما أن عقوبات الدنيا العامة وبلاؤها آثار غضبه فإذا استمر غضبه استمر ذلك البلاء فإذا رضي وزال غضبه زال البلاء وخلفته الرحمة، الخامس عشر أن رضاه أحب إليه من غضبه وعفوه أحب إليه من عقوبته ورحمته أحب إليه من عذابه وعطاؤه أحب إليه من منعه وإنما يقع الغضب والعقوبة والمنع بأسباب تناقص موجب تلك الصفات والأسماء وهو سبحانه كما يحب أسماءه وصفاته ويحب آثارها وموجبها كما في الحديث: «أنه وتر يحب الوتر جميل يحب الجمال نظيف يحب النظافة عفو يحب العفو». وهو شكور يحب الشاكرين عليم يحب العالمين جواد يحب أهل الجود حي ستير يحب أهل الحياء والستر صبور يحب الصابرين رحيم يحب الرحماء فهو يكره ما يضاد ذلك وكذلك كره الكفر والعصيان والفسوق والظلم والجهل لمضادة هذه الأوصاف لأوصاف كماله الموافقة لأسمائه وصفاته ولكن يريده سبحانه لاستلزامه ما يحبه ويرضاه فهو مراد له إرادة اللوازم المقصودة لغيرها إذ هي معصية إلى ما يحب فإذا حصل بها ما يحبه وأدت إلى الغاية المقصودة له سبحانه لم تبق مقصودة لا لنفسها ولا لغيرها فتزول ويخلفها أضدادها التي هي أحب إليه سبحانه منها وهي موجب أسمائه وصفاته فإن فهمت سر هذا الوجه وإلا فجاوزه إلى ما قبله ولا تعجل بإنكاره هذا وسر المسألة أنه سبحانه حكيم رحيم إنما يخلق بحكمة ورحمة فإذا عذب من يعذب لحكمة كان هذا جاريا على مقتضاها كما يوجد في الدنيا من العقوبات الشرعية والقدرية من التهذيب والتأديب والزجر والرحمة واللطف ما يزكي النفوس ويطيبها ويمحصها ويخلصها من شرها وخبثها والنفوس الشريرة الظالمة التي لو ردت إلى الدنيا قبل العذاب لعادت لما نهت عنه لا يصلح أن تسكن دار السلام التي تنافي الكذب والشر والظلم فإذا عذبت هذه النفوس بالنار عذابا يخلصها من ذلك الشر ويخرج خبثها كان هذا معقولا في الحكمة كما يوجد في عذاب الدنيا وخلق من فيه شر يزول بالتعذيب من تمام الحكمة أما خلق نفوس شريرة لا يزول شرها البتة وإنما خلقت للشر المحض وللعذاب السرمد الدائم بدوام خالقها سبحانه فهذا لا يظهر موافقته للحكمة والرحمة وإن دخل تحت القدرة فدخوله تحت الحكمة والرحمة ليست بالبين فهذا ما وصل إليه النظر في هذه المسألة التي تكع فيها عقول العقلاء وكنت سألت عنها شيخ الإسلام قدس الله روحه فقال لي هذه المسألة عظيمة كبيرة ولم يجب فيها بشيء فمضى على ذلك زمن حتى رأيت في تفسير عبد بن حميد الكثي بعض تلك الآثار التي ذكرت فأرسلت إليه الكتاب وهو في مجلسه الأخير وعلمت على ذلك الموضع وقلت للرسول قل له هذا الموضع يشكل عليه ولا يدري ما هو فكتب فيها مصنفه المشهور رحمة الله عليه فمن كان عنده فضل علم فليحدثه فإن فوق كل ذي علم عليم وأنا في هذه المسألة على قول أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه ذكر دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ووصف ذلك أحسن صفة ثم قال: «ويفعل الله بعد ذلك في خلقه ما يشاء». وعلى مذهب عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حيث يقول: لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا نارا.